كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فلما سمعت} زليخا: {بمكرهنّ}، أي: قولهن وإنما سمي ذلك مكرًا لوجوه:
الأوّل أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاءً لرؤية يوسف عليه السلام، والنظر إلى وجهه؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ.
الثاني: أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكرًا.
الثالث: أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر: {أرسلت إليهنّ} تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ. قال وهب: اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس: {وأعتدت}، أي: أعددت: {لهنَّ متكأً}، أي: طعامًا يقطع بالسكين، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأً؛ لأنه يتكأ عنده. قال جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا ** وشربنا الحلال من قلله

والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئًا. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا آكل متكئًا» وقيل: إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه السلام: {وآتت}، أي: أعطت: {كل واحدة منهنَّ سكينًا}، أي: لتأكل بها، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين: {وقالت} زليخا ليوسف عليه السلام: {اخرج عليهنّ}، أي: النسوة، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل، والباقون بالضم، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم: {فلما رأينه}، أي: النسوة: {أكبرنه}، أي: أعظمنه ودهشن عند رؤيته، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة: كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر» ذكره البغويّ بغير سند، وقال ابن إسحاق: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال: إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة، وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة، وقيل: أكبرنه يعني حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ** فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

وقيل: أمنين قال الكميت:
ولما رأته الخيل من رأس شاهق ** صهلن وأمنين المنيّ المدفقا

وقال الرازي: إنما أكبرنه؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ، وكان الجمال العظيم مقرونًا بتلك الهيبة، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ: {وقطعنّ أيديهنّ}، أي: جرحنها بالسكاكين التي معهنّ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف، وقال وهب: مات جماعة منهنّ: {وقلن حاش لله}، أي: تنزيهًا، له الرسم بغير ألف بعد الشين.
وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفًا ووصلًا: {ما هذا}، أي: يوسف عليه السلام: {بشرًا} وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى: {ما هنّ أمّهاتهم} [المجادلة] {إن}، أي: ما: {هذا إلا ملك كريم}، أي: على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.
{قالت}، أي: زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته: {فذلكن}، أي: فهذا هو: {الذي لمتنني فيه}، أي: في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني، ثم أنها صرحت بما فعلت فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}، أي: فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت، وإنما صرحت بذلك؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته، ثم قالت: {ولئن لم يفعل ما آمره}، أي: وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه: {ليسجنن}، أي: ليعاقبن بالحبس: {وليكونا من الصاغرين}، أي: الذليلين المهانين، فقال النسوة ليوسف: أطع مولاتك فيما دعتك إليه، فاختار يوسف عليه السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك.
{قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} وإن كان هذا مما تشتهيه النفس، وذلك مما تكرهه نظرًا إلى العاقبة، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل: إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعًا؟
أجيب: بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل: إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء لو لم يقل السجن، أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له: «سألت الله البلاء فاسأله العافية» رواه الترمذي: {وإلا}، أي: وإن لم: {تصرف عني كيدهنّ}، أي: فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة: {أصب}، أي: أمل: {إليهنّ} يقال: صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه: {وأكن}، أي: أصر: {من الجاهلين}، أي: من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنبًا إنما يرتكبه عن جهالة، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى: {فاستجاب له ربه}، أي: فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل:
إذا أثنى عليك المرء يومًا ** كفاك من تعرّضه الثناء

{فصرف عنه كيدهن}، أي: فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان: {إنه هو السميع}، أي: لدعاء الملتجئين إليه: {العليم}، أي: للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.
{ثم بدا}، أي: ظهر: {لهم}، أي: العزيز وأصحابه: {من بعد ما رأوا الآيات}، أي: الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ: {ليسجننه حتى}، أي: إلى: {حين} ينقطع فيه كلام الناس، وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.
تنبيه: في فاعل بدا أربعة أوجه: أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين، أي: ظهر لهم حبسه. والثاني: أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا، أي: بدا لهم بداء. والثالث: أنه مضمر يدل عليه السياق، أي: بدا لهم رأي. والرابع: أنه محذوف وليسجننه قائم مقامه، أي: بدا لهم السجن، فحذف وأقيمت الجملة مقامه، وليست الجملة فاعلًا؛ لأن الجمل لا تكون كذلك، وقيل: الحبس هنا خمس سنين، وقيل: سبع سنين.
وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشرة سنة، وقال الرازي: والصحيح أنّ هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي مسجونًا مدّة طويلة لقوله تعالى: {وادّكر بعد أمة} [يوسف] وعن عكرمة قال: قال رجل ذو رأي للعزيز: متى تركت هذا العبد يعتذر إلى الناس، ويقص عليهم أمره فاتركه في بيتها لا يخرج إلى الناس فإن خرج للناس عذروه وفضحوا أهلك فأمر به فسجن.
{ودخل معه السجن فتيان} وهما غلامان كانا للوليد بن نزوان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أنّ جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالًا على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم أنّ الساقي ندم ورجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإنّ الطعام مسموم فقال الخباز: لا تشرب فإنّ الشراب مسموم. فقال الملك للساقي اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام: دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام حين دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرّب هذا العبد العبراني فنتراءى له رؤيا قال ابن مسعود: وما رأيا شيئًا وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكر أنهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤيا غمتهما، فقال يوسف: قصا عليّ ما رأيتما: {قال أحدهما} وهو صاحب شراب الملك: {إني أراني أعصر خمرًا}.
فإني قيل: كيف يعقل عصر الخمر؟
أجيب: عن ذلك بثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي: العنب الذي يكون عصيره خمرًا فحذف المضاف.
الثاني: إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه تقول: فلان يطبخ دبسًا وهو يطبخ عصيرًا.
الثالث: قال أبو صالح: أزد وعمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها. قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب وذلك أنه قال: إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه شجرة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه، وسقيت الملك فشربه: {وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه} وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الطعام وسباع الطير تنهش منه: {نبئنا}، أي: أخبرنا: {بتأويله}، أي: بتفسيره: {إنا نراك من المحسنين}، أي: في علم التفسير؛ لأنه متى عبر لم يخطئ كما قال: وعلمتني من تأويل الأحاديث، وقيل: في أمر الدين؛ لأنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة، فإنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كله، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور، وقيل: في حق الشركاء والأصحاب؛ لأنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم، وإذا ضاق على أحدهم وسع عليه وإذا احتاج أحدهم جمع له شيئًا، قيل: إنه لما دخل السجن وجد قومًا اشتدّ بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسكنهم ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا فيقولون: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفيّ الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: والله يا فتى لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
وروي أنّ الفتيين لما رأيا يوسف قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف: أنشدكما الله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست، فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما.
{قال} معرضًا عن سؤالهما أخذًا في غيره من إظهار المعجزة في الدعاء إلى التوحيد: {لا يأتيكما طعام ترزقانه}، أي: في منامكما: {إلا نبأتكما بتأويله}، أي: في اليقظة: {قبل أن يأتيكما} تأويله، وقيل: أراد به في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه من منازلكما تطعمانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل وأي طعام أكلتم، ومتى أكلتم وهذه كمعجزة عيسى عليه السلام حيث قال: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} [آل عمران] فقالا: هذا فعل العرافين والكهنة. فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن: {ذلكما}، أي: هذا التأويل والإخبار بالمغيبات: {مما علمني ربي} وفي ذلك حث على إيمانهم ثم قواه بقوله: {إني تركت ملة}، أي: دين: {قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} وكرر لفظة هم للتأكيد لشدّة إنكارهم للمعاد. ولما ادعى يوسف عليه السلام النبوّة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوّة بقوله: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد، فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجدّه لم يستبعد ذلك منه، وأيضًا فكمال درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمر مشهور في الدنيا، فإذا أظهر أنهم آباؤه عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وتأثير قلوبهم بكلامه أكمل.
فإن قيل: إنه كان نبيًا فكيف قال: اتبعت ملة آبائي، والنبيّ لابد وأن يكون مختصًا بشريعة نفسه؟
أجيب: بأنّ مراده التوحيد الذي لا يتغير، أو لعله كان رسولًا من عند الله تعالى إلا أنه كان نبي على شريعة إبراهيم عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون ياء {آبائي} والباقون بالفتح: {ما كان}، أي: ما صح: {لنا} معشر الأنبياء: {أن نشرك بالله من شيء} لأنّ الله تعالى طهره وطهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} [مريم] وإنما قال: من شيء لأنّ؛ أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الملائكة، فقوله: من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله: {ذلك}، أي: التوحيد: {من فضل الله علينا} بالوحي: {وعلى الناس}، أي: سائرهم ببعثنا لارشادهم وتثبيتهم عليه: {ولكنّ أكثر الناس}، أي: المبعوث إليهم: {لا يشكرون} هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره ثم دعاهم إلى الإيمان فقال: {يا صاحبي السجن}، أي: يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب النار: {أأرباب}، أي: آلهة: {متفرقون}، أي: متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك: {خير}، أي: أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة: {أم الله الواحد القهار}، أي: المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير، والاستفهام للتقرير، وفي الهمزتين في: {أأرباب} من القراءات ما في: {أأنذرتهم} وقد مرّ.
فإن قيل: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال: إنها خير أم الله؟
أجيب: بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار. ثم بين عجز الأصنام فقال: {ما تعبدون} وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله: {من دونه}، أي: الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك: {إلا أسماء} وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله: {سميتموها}، أي: ذوات أوجدتم لها أسماء: {أنتم} سميتموها آلهة وأربابًا، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها: {وآباؤكم} من قبلكم سموها كذلك: {ما أنزل الله بها}، أي: بعبادتها: {من سلطان}، أي: حجة وبرهان: {إن الحكم}، أي: ما الحكم: {إلا لله}، أي: المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة: {أمر} وهو النافذ الأمر المطاع الحكم: {أن لا تعبدوا إلا إياه}؛ لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديرًا بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيهًا على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال: {ذلك}، أي: الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه: {الدين القيم}، أي: المستقيم الذي لا عوج فيه: {ولكنَّ أكثر الناس} وهم الكفار: {لا يعلمون} ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون. ولما قرر يوسف عليه السلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال: {يا صاحبي السجن}، أي: الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب، فتخلص فيه المودّة، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذرًا له في الخروج عن الأليق فقال: {أمّا أحدكما} وهو صاحب شراب الملك: {فيسقي ربه}، أي: سيده: {خمرًا} على عادته، والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يدعو به الملك فيردّه إلى رتبته التي كان عليها هذا تأويل رؤياه: {وأمّا الآخر} وهو صاحب طعام الملك: {فيصلب} والسلال الثلاثة ثلاثة أيام، ويدعو به الملك فيصلبه: {فتأكل الطير من رأسه} هذا تأويل رؤياه، قال ابن مسعود: فلما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا: ما رأينا شيئًا إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف عليه السلام: {قضي}، أي: تم: {الأمر الذي فيه تستفتيان}، أي: تطلبان الإفتاء فيه عملًا بالفتوة، فسألتما عن تأويله وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما لم أقله عن جهل ولا غلط.